الخميس، أكتوبر 15، 2009

علامات العلماء

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، و الصلاة و السلام على أشرف المرسلين و على آله و صحبه أجمعين

علامات العلماء

قال الله تعالى:{فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [الأنبياء:7]

فأرشدنا – جل وعلا – إلى سؤال العلماء عند الجهل، وسمّاهم أهل الذكر، فشأن هؤلاء العلماء أن يكونوا أعلم الناس بنصوص الكتاب والسنة.

فالعلماء هم العارفون بشرع الله، المتفقهون في دينه، العاملون بعلمهم على هدى وبصيرة،وهم أولو الحكمة، قال تعالى: {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} [البقرة: 269].

فهؤلاء هم أئمة الدين، ورثة النبوة الذين ورثوا العلم عن الأنبياء، فحملوه في صدورهم، وانطبعت أعمالهم بما قرّ في جنانهم..

وهم الفرقة التي نفرت لبيان دين الله للناس، وقامت بواجب الدعوة ومهمة الإنذار. قال تعالى:{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122].

وهؤلاء لا يخلو منهم زمان، فإنهم رأس الطائفة المنصورة القائمة بأمر الله، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: "لا تزال طائفة من هذه الأمة قائمة على أمر الله، لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله".

قال الإمام البخاري: "هم أهل العلم".

ونحن – وإن كنا في زمان قل علماؤه – نذكّر بهذا قطعا لريبة مرتاب، وأملا نبثه في قلب يؤوس قانط، قد ذهب مع كل ناعق يقول: لم يعد عالم، وما أمامنا إلا هذه الرؤوس الجهال. فإنّا ندحض شبهته بهذا الحديث الأغر، فإذا هو زاهق، والله المستعان.

فالعلماء هم رأس الجماعة التي أمِرنا بلزومها وحُذرنا من مفارقتها، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: "من فارق الجماعة قيد شبر، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه".

والمحصل من أقوال أهل العلم في معنى الجماعة قولان:

الأول: هم جماعة المسلمين إذا اجتمعوا على الإمام الشرعي.

الثاني: الجماعة هي المنهج والطريقة، فمن كان على هدى النبي صلى الله عليه و سلم وصحبه والسلف الصالح فهو مع الجماعة.

وعلى القولين، فإن رأس كيان هذه الجماعة هم العلماء، فهم أهل الحل والعقد، وهم الأدلاء على المنهج الصحيح. لكن السؤال الذي يتردد كثيراً ويساء فهم جوابه في واقع الناس هو: ما هي علامة أولي العلم ممن يشتبه بهم؟ وكيف لطالب العلم أن يعرف أن شيخه هذا من هذه الطائفة المباركة أو هو دونهم؟

والجواب عن ذلك يحتاج إلى وقفة تدبر مهمة في الشق العلمي النظري وتطبيق ذلك في الشق العملي، فإن من أكبر آفات طلبة العلم في وقتنا الحالي بلية التصنيف، لا عن هدى ورشد، بل وفق هوى وتراشق لأسهم المتنازعين، فتعال – أيها المتفقه – نقلب صفحات علمائنا من السلف الصالح لترشدنا لحقيقة هذه المسألة.

قالوا: علامة العالم:

1- رسوخ القدم في مواطن الشبه.

قال ابن القيم: "إن الراسخ في العلم لو وردت عليه شُبَه بعدد أمواج البحر ما أزالت يقينه، ولا قدحت فيه شكا؛ لأنه قد رسخ في العلم فلا تستفزه الشبهات، بل إذا وردت عليه ردها حرس العلم وجيشه مغلولة مغلوبة".

ولذلك ترى صور العلماء مشرفة عبر التاريخ إبان نشوب الفتن، أما ترى إمام أهل السنة الإمام أحمد، وكيف تصدى لبدعة خلق القرآن - مع شدة الضغوط التي قام بها المعتزلة وقتها مؤيدين بسيف الخلافة العباسية-؟ وانظر لصور مضيئة أخرى ممثلة في شيخ الإسلام ابن تيمية، وتأمل مناظراته مع أهل الفرق المبتدعة.

ومثال ذلك موقفه من الطريقة الرفاعية الصفية التي زعمت أن الله ألان لأصحابها الحديد، وأزال لهم فاعلية السموم والنيران، وأخضع لهم طغاة الجان.. فقد طلب منهم شيخ الإسلام أن يلقوا بأنفسهم في النار شريطة أن يغتسلوا بالخل والماء الحار – فإنهم كانوا يدهنون بمواد تقيهم من الحرق بالنار – ، فأبوا وكانت قاصمة ظهرٍ لهم.

وفي العصر الحديث يذكر شيخنا المفضال محمد بن إسماعيل المقدم أنه كان في الحج عندما ظهرت حركة المهدي القحطاني. يقول: "وكان الذعر قد تسلل إلى نفوس الناس، وكنت أتردد إلى الخيمة التي كان بها فضيلة الشيخ محدث العصر ناصر الدين الألباني، وإذا بالشيخ كالطود ثبوتا، وكان يرد على شبهات ذلك المتمهدي وهو قرير العين ثابت الجنان".

وهكذا يعرف العلماء ممن دونهم ممن ينتحلون العلم ولا بضاعة لهم فيه.

2- أنهم يعرفون بنسكهم وخشيتهم لله تعالى.

قال الله تعالى:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28].

قال الإمام ابن رجب – رحمه الله تعالى – في بيان أن العلم النافع طريق خشية الله تعالى:

"وسبب ذلك أن هذا العلم النافع يدل على أمرين:

أحدهما : على معرفة الله وما يستحقه من الأسماء الحسنى والصفات العلا، والأفعال الباهرة، وذلك يستلزم إجلاله، وإعظامه، وخشيته، ومهابته، ومحبته، ورجاءه، والتوكل عليه، والرضا بقضائه، والصبر على بلائه.

والأمر الثاني: المعرفة بما يحبه ويرضاه، وما يكرهه ويسخطه من الاعتقادات والأعمال الظاهرة والباطنة والأقوال، فيوجب ذلك لمن علمه المسارعة إلى ما فيه محبة الله ورضاه، والتباعد عما يكرهه ويسخطه، فإذا أثمر العلم لصاحبه هذا فهو علم نافع..

فهم أكثر الناس خوفاً من الله، ولذلك تراهم لا يتجرؤون على الفتوى دون علم، إذ هم الموقعون عن الله تعالى، قد علموا عن الله ما زادهم وجلا وخشية، فلا يشترون بعلمهم ثمنا قليلاً من حطام الدنيا الفاني".

والخشية أخص من الخوف، فهي خوف مقرون بمعرفة، ولذلك تواترت أخبار علماء سلف هذه الأمة في شدة خشيتهم لله ورقة قلوبهم.

قال سويد بن سعيد: "كنت عند سفيان، فجاء الشافعي فسلم وجلس، فروى ابن عيينة حديثاً رقيقاً، فغشي على الشافعي، فقيل: يا أبا محمد، مات محمد بن إدريس. فقال ابن عيينة: إن كان مات فقد مات أفضل أهل زمانه".

وهذا الأوزاعي كانت أمه تتفقد موضع مصلاه فتجده رطباً من دموعه طوال الليل.

وهذا إمام أهل السنة الإمام أحمد كان إذا ذكر الموت خنقته العبرة، وكان يقول: "الخوف يمنعني أكل الطعام والشرب، وإذا ذكرت الموت هان علي كل أمر الدنيا، إنما هو طعام دون طعام، ولباس دون لباس، وإنها أيام قلائل.."

فانظر لحال هؤلاء الأكابر، وقارنه بحال المتعالمين من عصرنا، ممن جعلوا العلم هو شحن الذهن بكم من المعارف والمعلومات، لا أثر لها في القلب، وإنما يعرف العلم بثمرته، لذا قال السلف: "إنما العلم الخشية"، أما نحن فصار الألحن بالقول المجادل بالكلاميات هو من يشار إليه بالبنان، وصار هذا هو العالم فينا، والعلم إن لم يظهر أثره على عمل المرء فليس بذلك الذي تأمل، فتدبر هذه المسألة مليا، فقد تعثرت أقدام كثير من الإخوة في هذا الزمان بسبب ذلك.

3- أنهم أكثر الناس استعلاء على الدنيا وحظوظها.

وسير علماء السلف مليئة بالأخبار عن ردهم عطايا الملوك والأمراء، وحفظهم لجناب العلم، إذ الدنيا تحت أقدامهم لا يسعون إليها،و قد أضر ببعضهم الفقر فلم يمد يده، ولا ابتاع بعلمه شيئاً.

فهذا سيد التابعين سعيد بن المسيب – رحمه الله – كان له في بيت المال بضعة وثلاثون ألفا عطاءً، فكان يدعى إليها فيأبى، وكان يتاجر في الزيت، ويحمل إهاب الشاه على ظهره، ويقول: "لا خير فيمن لا يريد جميع المال من حله، يعطي منه حقه، ويكف به وجهه عن الناس".

وهذا الخليل بن أحمد الفراهيدي إمام العربية ومبتكر علم العروض، كان ورعا متقشفاً متعبداً، أقام في خص له بالبصرة لا يقدّر بفلسين، وتلامذته يكسبون بعلمه الأموال، وكان كثيراً ما ينشد:

"وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد *** ذخرا يكون كصالح الأعمال"

وهذا الإمام أحمد الحبيب إلى قلوب المؤمنين، ربما يحتاج، ولو أشار ببنانه لأتته العطايا من كل حدب وصوب، ولكنه كان يقول: "عزيز علي أن تذيب الدنيا أكباد رجال وعت صدورهم القرآن".

وكان ينسخ بأجرة، ويلتقط السنبل الذي تخطئه المناجل، ويرهن نعله عند الخباز على طعام أخذه منه، ويبيع غزلاً تغزله له زوجه، و لربما أراد أن يرقع ثوبه فلا يجد رقعة، وربما يأخذ الكسر، ينفض الغبار عنها ويصيرها في قصعة ويصب عليها الماء، ثم يأكلها بالملح، فهذا طعامه.

وأراك – أيها المتفقه – ربما تهمس أو تحدثك نفسك وتقول: "هؤلاء سلف الأمة، وقد تبدل الزمان"، فإني آتيك بشهداء من عصرك يقيمون علي وعليك الحجة.

فقد رأيت بعيني رأسي شيخنا العلامة ابن عثيمين وهو يمشي حافياً، وهو من هو، وفي أي بلدة كان، وكان يأكل الخبز الجاف بالماء، ويطعم إخوانه اللحم.

4- ثناء جماهير الناس عليهم، وشهرتهم في الآفاق.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - : "ومن له في الأمة لسان صدق بحيث يثنى عليه ويحمد في جماهير أجناس الأمة، فهؤلاء أئمة الهدى ومصابيح الدجى".

فالمسلمون هم شهداء الله في أرضه، وفي الحديث أن صحابة رسول الله صلى الله عليه و سلم مروا بجنازة فأثنوا عليها خيراً، فقال النبي صلى الله عليه و سلم : "وجبت". ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شرا فقال: "وجبت".

فقال عمر – رضي الله عنه -: ما وجبت؟!!

قال : " هذا أثنيتم عليه خيراً فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شرا فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض".

وفي رواية : " المؤمنون شهداء الله في الأرض".

ولا شك أن المراد هنا من ثناء الناس الإشارة إلى أهل الفضل والثقاة منهم، إذ قد يشكل على بعض القوم شهرة من ليس من أهل هذا الشأن، فالشهرة مسألة نسبية، وكم من العلماء من آثر الخمول فلم يشتهر أمره، ولكن يأبى الله إلا أن يقيم الحجة على خلقه يإظهار أولي العلم بينهم.

وقد دأب علماء المسلمين من سلف هذه الأمة ومن تبعهم بإحسان على عدم السماح بتصدر التلاميذ حتى يروا أنهم جديرون بذلك، ولذلك ما اشتهر بينهم إلا من يستحق!!

قال الإمام مالك: "لا ينبغي لرجل أن يرى نفسه أهلا لشيء حتى يسأل من كان أعلم منه، وما أفتيت حتى سألت ربيعة ويحيى بن سعيد فأمراني بذلك، ولو نهياني لانتهيت".

5- أن يكون ممن تربى على أيدي الشيوخ.

فقد نصوا على ضرورة الأخذ عمن تربى في كنف العلماء، وأما من تشيخ عن الصحف فلم يأمنوا زلل قدمه.

عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء..".

وفي هذا دليل على أن العلماء هم مفاتيح العلم بلا ريب.

قال الحافظ بن حجر في (الفتح): "وفي حديث أبي أمامة من الفائدة الزائدة: أن بقاء الكتب بعد رفع العلم بموت العلماء لا يعني من ليس بعالم شيئا.."

لهذا لمّا سأل أعرابي النبي صلى الله عليه و سلم فقال: "يا نبي الله، كيف يرفع العلم منا وبين أظهرنا المصاحف، وقد تعلمنا ما فيها وعلمناها أبناءنا ونساءنا وخدمنا؟ " رفع إليه المصطفى صلى الله عليه و سلم رأسه وهو مغضب وقال: "وهذه اليهود والنصارى بين أظهرهم المصاحف، لم يتعلقوا بحرف مما جاءتهم به أنبياؤهم"

قال الإمام الشاطبي: "وإن كان الناس قد اختلفوا: هل يمكن حصول العلم دون معلم أم لا؟.

فالإمكان مسلم، ولكن الواقع في مجاري العادات: أن لابد من المعلم، وهو متفق عليه في الجملة..".

ثم قال : "وقد قالوا: إن العلم كان في صدور الرجال، ثم انتقل إلى الكتب، وصارت مفاتيحه بأيدي الرجال. وهذا الكلام يقضي بأن لابد في تحصيله من الرجال".

أيها المتفقه:

لابد من معلم. قال الإمام الشافعي: "شر البلية تشيخ الصحفية" يعني: الذين تلقوا علمهم من الصحف – أي: الكتب.

وقال بعض السلف: "من كان شيخُه كتابَه كان خطؤه أكثر من صوابه".

وقال أبو زرعة – رحمه الله - : "لا يفتي الناسَ صحفي، ولا يقرئهم مصحفي".

وكان ثور بن يزيد يقول: "لا يفتي الناس الصحفيون".

فلا بد لك من شيخ متقن، ومربٍّ حاذق، وصاحب ناصح، فهذه ثلاثة لو اجتمعت في واحد لكان خيرا له، وإن كانا اثنين، و إلا فلزوم الثلاثة هو المتحتم.

وذهبوا إلى أن شرط العلم أن يكون ممن لازم أهل العلم، وتربى على أيديهم، وعرف باقتدائه بهم، وتأدبه بأدبهم.

قال الإمام الشاطبي في صفة العالم المتحقق بالعلم: "أن يكون ممن رباه الشيوخ في ذلك العلم؛ لأخذه عنهم وملازمته لهم، فهو الجدير بأن يتصف بما اتصفوا به من ذلك"

وهكذا كان شأن السلف الصالح، فأول ذلك ملازمة الصحابة – رضي الله عنهم – لرسول الله صلى الله عليه و سلم وأخذهم بأقواله وأفعاله، واعتمادهم على ما يرد منه، كائنا ما كان، وعلى أي وجه صدر، فهم فهموا مغزى ما أراد به أولا، حتى علموا وتيقنوا أنه الحق الذي لا يعارَض، والحكمة التي لا ينكسر قانونها، ولا يحوم النقص حو1ل حمى كمالها، وإنما ذلك بكثرة الملازمة، وشدة المثابرة.

وتأمل قصة عمر بن الخطاب في صلح الحديبية حيث قال: "يارسول الله، ألسنا على الحق وهم على الباطل؟"

قال: "بلى".

قال: "أليس قتلانا في الجنة، وقتلاهم في النار؟ "

قال: "بلى"

قال: "فعلام نعطي الدنية في ديننا، ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم؟"

قال: "يا ابن الخطاب، إني رسول الله، ولن يضيعني الله أبدا".

فانطلق عمر متغيظا ولم يصبر ، فأتى أبا بكر فقال له مثل ذلك.

فقال أبو بكر: "إنه رسول الله، ولن يضيعه الله أبدا".

قال: "فنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه و سلم بالفتح، فأرسل إلى عمر فأقرأه إياه.

فقال: "يارسول الله، أو فتح هو؟!"

قال: "نعم". فطابت نفسه ورجع.

فهذا من فوائد الملازمة، والانقياد للعلماء، والصبر عليهم في مواطن الإشكال، حتى لاح البرهان للعيان.

وفيه قال سهل بن حنيف يوم صفين: "أيها الناس!! اتهموا رأيكم؛ والله لقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أني أستطيع أن أرد أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم لرددته".

وإنما قال ذلك لما عرض لهم فيه من الإشكال، وإنما نزلت سورة الفتح بعدما خالطهم الحزن والكآبة لشدة الإشكال عليهم والتباس الأمر، ولكنهم سلموا وتركوا رأيهم حتى نزل القرآن، فزال الإشكال والالتباس.

وصار مثل ذلك أصلا لمن بعدهم، فالتزم التابعون في الصحابة سيرهم مع النبي صلى الله عليه و سلم حتى فقهوا، ونالوا ذروة الكمال في العلوم الشرعية. وحسبك من صحة هذه القاعدة أنك لا تجد عالما اشتهر في الناس الأخذ عنه إلا وله قدوة اشتهر في قرنه بمثل ذلك.

وكلما وَجدت فرقة زائغة، أو أحدا مخالفا للسنة إلا وهو مفارق لهذا الوصف. وبهذا الوجه وقع التشنيع على ابن حزم الظاهري، وأنه لم يلازم الأخذ عن الشيوخ، ولا تأدب بآدابهم، وبضد ذلك كان العلماء الراسخون كالأئمة الأربعة وأشباههم.

فمثلا: بهذا الوصف امتاز مالك عن أضرابه، أعني بشدة الاتصاف به، وإلا فالجميع ممن يُهتدى به في الدين كذلك كانوا، ولكن مالكا اشتهر بالمبالغة في هذا المعنى.

ولما ترك هذا الوصف – أي: اقتداء كل تلميذ بشيخه تماماً في نعته ووصفه وطريقته وسمته – رفعت البدع رؤوسها؛ لأن ترك الاقتداء دليل على أمر حدث عند التارك، أصله: اتباع الهوى".

وتأمل معي – أخي في الله – هذه الفقرة للإمام مالك – رضي الله عنه – في الاتباع فإنها نافعة.

كان مالك إذا ذكر النبي صلى الله عليه و سلم يتغير لونه وينحني حتى يصعب ذلك على جلسائه، فقيل له يوما في ذلك، فقال:

"لو رأيتم ما رأيت لما أنكرتم علي ما ترون، لقد كنت أرى محمد بن المنكدر – وكان سيد القراء – لا نكاد نسأله عن حديث أبدا إلا يبكي، حتى نرحمه، ولقد كنت أرى جعفر بن محمد وكان كثير الدعابة والتبسم، فإذا ذكر عنده النبي صلى الله عليه و سلم اصفر، وما رأيته يحدث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا على طهارة، ولقد اختلفت إليه زمانا فما كنت أراه إلا على ثلاث خصال: إما مصليا، وإما صامتا، وإما يقرأ القرآن، ولا يتكلم فيما لا يعنيه، وكان من العلماء والعباد الذين يخشون الله – عز وجل -، ولقد كان عبد الرحمن بن القاسم يذكر النبي صلى الله عليه و سلم فينظر إلى لونه كأنه نزف منه الدم، وقد جف لسانه في فمه هيبة منه لرسول الله صلى الله عليه و سلم.

ولقد كنت آتي عمر بن الزبير، فإذا ذكر عنده النبي صلى الله عليه و سلم بكى حتى لا يبقى في عينيه دموع.

ولقد رأيت الزهري وكان من أهنأِ الناس وأقربهم، فإذا ذكر عنده النبي صلى الله عليه و سلم فكأنه ما عرفك ولا عرفته.

ولقد كنت آتي صفوان بن سليم، وكان من المتعبدين المجتهدين، فإذا ذكر عنده النبي صلى الله عليه و سلم بكى، فلا يزال يبكي حتى يقوم الناس عنه ويتركوه"

فتأمل ملاحظته لمشايخه ونظره إليهم وتأمله لحالهم ثم تأسيه بهم.

وهكذا تأسيهم أيضاً بمن قبلهم، وإنما استفادوا ذلك من طول الملازمة وحسن التأسي.

وبطبيعة الحال لا يشترط السلامة من الخطأ البتة؛ لأن فروع كل علم إذا انتشرت، وانبنى بعضها على بعض اشتبهت، فلا يقدح في كونه عالما، ولا يضر في كونه إماماً مقتدى به أن يخطئ، أو أن تذهب عنه بعض المسائل، ولكن كلما قصر عن استيفاء الشروط نقص عن رتبة الكمال بمقدار ذلك النقصان، فلا يستحق الرتبة الكمالية ما لم يكمل النقص.

قال الإمام الذهبي: "ثم إن الكبير من أئمة العلم إذا كثر صوابه وعلم تحريه للحق واتسع علمه وظهر ذكاؤه وعرف صلاحه وورعه واتباعه يغفر له، فلا نضلله ولا نطرحه وننسى محاسنه، نعم، ولا نقتدي به في بدعته وخطئه، ولكن نرجو له التوبة من ذلك".

6- العمل بما علم:

يقول الإمام الشاطبي: "وللعالم المتحقق بالعلم أمارات وعلامات:

إحداها: العمل بما علم، حتى يكون قوله مطابقا لفعله، فإن كان مخالفاً له فليس بأهل لأن يؤخذ عنه، ولا أن يقتدى به في علم" اهـ

وهذا مما يثير الحزن والأسف، فقد صار هؤلاء من الندرة بمكان، نعوذ بالله أن نذكر به وننساه، ونعوذ به من النفاق وأهله، ونعوذ به من علم لاينفع.

قال علي - رضي الله عنه - : "تعلموا العلم تعرفوا به، واعملوا به تكونوا من أهله، فإنه سيأتي بعد هذا زمان لا يعرف فيه تسعة عشرائهم المعروف، ولا ينجو منه إلا كل نومة، فأولئك أئمة الهدى ومصابيح العلم، ليسوا بالمساييح، ولا المذاييع البذر".

7- ظهور أثر علمهم من خلال دروسهم وفتاويهم ومؤلفاتهم:

قال الإمام أبو طاهر السلفي عن الإمام الخطابي: "وأما أبو سليمان الشارح لكتاب أبي داود، فقد تحققت إمامته وديانته فيما أورده وفي أمانته، وكان قد رحل في الحديث وقراءة العلوم، وطوف، ثم ألـف في فنون من العلم وصنّف.

اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبسا علينا فنضل

اللهم ارنا الأشياء على حقيقتها

واجعلنا ممن يدل خلقك عليك، وفقهنا في الدين

و صلى الله و سلم على نبينا محمد و آله و صحبه

و الحمد لله رب العالمين.
منقول عن موقع الشيخ محمد حسين يعقوب




0 التعليقات:

إرسال تعليق

بث مباشر لقناة العفاسي